صحفيتان وقناعتان

                     Deux Journalistes, Deux Convictions                 

" لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تزور فيها الصحفية الفرنسية الآنسة سيمون أوليفية الجزائر، فقد اعتادت أن تزورها بانتظام منذ أكثر من ثلاثين عاما كمندوبة لهذه الصحيفة أو تلك. لكنها هذه المرة تزورها وهي تعد كتابا عن "ظاهرة الإرهاب في العالم". ومن الطبيعي أن تلتقي بالسيدة هدى التي تناولت هذه الظاهرة في الجزائر في كتاب نشر بالعربية والفرنسية واطلعت عليه الآنسة سيمون.

قالت وهي تتلذذ بمذاق طبق "الكسكسي" المفضل لديها، في مطعم "دار الضياف" تلبية لدعوة السيدة هدى: "لدي ملاحظتان: الأولى تتعلق بكتابك فقد بررت في تحليلاتك أفعال الإرهابيين الإجرامية حين زعمت أنها جاءت كرد فعل على الظلم الاجتماعي والسياسي، بينما سبب الإرهاب الرئيسي هو التطرف سواء أكان دينيا كإرهاب القاعدة أو عنصريا كإرهاب منظمة "كوكلس كلان" ضد الزنوج أو حزبيا كإرهاب الشيوعيين.

كان ما يقرب بين السيدتين ثقافتهما ومهنتهما واهتمامهما بما يحدث في العالم ومحاولتهما رصد ظاهرة الإرهاب وتحليلها. أما سيمون فتنتمي إلى الحزب الاشتراكي الفرنسي وأما هدى فصحفية مستقلة.

كانتا شديدتي الاهتمام بأناقتهما ومظهرهما. وهما في سن متقارب، بين أوائل ومنتصف الخمسينات، ومع ذلك ليست هناك شعرة واحدة بيضاء في رأس كل منهما، أو أي تجاعيد في وجه إحداهما، فالأصباغ تخفي الشعر الأبيض والمساحيق تغطي التجاعيد.

لكن الاختلاف بينهما لم يكن في لون البشرة الأبيض والأسمر أو لون الشعر الأشقر والأسود أو العينين الزرقاوين والسوداوين فحسب ولكن في فلسفة كل منهما في الحياة ونظرتها إلى الأمور، ومنها نظرة كل منهما إلى الإرهاب. 

ردت هدى بهدوء:

 "أنا لا أبرر، فأفعال الإرهابيين الشريرة في التفجير والتدمير وقتل الأبرياء غير مبررة شرعا وقانونا وأخلاقا. أنا إذا لا أبرر ولكني أفسر والتفسير أمر ضروري لفهم الظاهرة والتصدي لها، وما لم نزل الأسباب الحقيقية ستبقى الظاهرة قائمة. لاشك أن التطرف هو الذي يشعل شرارة الإرهاب ولكن وقودها الذي يحولها إلى نار محرقة هم الفقراء والمظلومون، وما لم يجد الإرهاب بين هؤلاء جنودا له يجندهم باستمرار ستنطفئ ناره ويخمد أواره. الإحباط يأخذ أشكالا كثيرة فقد يؤدي إلى الانتحار الذي تتزايد نسبته باستمرار أو إلى الهجرة غير الشرعية "الحرقة" بكل ما فيها من مخاطر أو الانتساب إلى الحركات الإرهابية. ثم إنك تتحدثين عن الإرهاب الشيوعي وتنسين الإرهاب الرأسمالي الذي استعمر شعوبا بأكملها وقد ذاق شعبنا مرارة هذا الإرهاب وظل يقاومه حتى حصل على استقلاله".

لم تعلق الآنسة سيمون بل تابعت قائلة: "أما الملاحظة الثانية فتتعلق بالمقالات التي تكتبينها عن القضية الفلسطينية".

سألتها هدى: "ما الذي لا يعجبك فيها؟"

- أعجب من تأييدك الواضح والصريح لمنظمتين إرهابيتين هما حزب الله وحركة حماس كأنك عضو فيهما، وتهاجمين الصهيونية وهي تسعى لإنصاف الشعب اليهودي.

كانت هدى تعرف مسبقا أن مواقف سيمون ليست نابعة من قناعاتها الشخصية، بل إن قناعاتها الشخصية تتكون وفق مواقف حزبها وتتغير بتغيرها. قليلون في هذا العالم، مَنْ تنبع مواقفهم من قناعاتهم الشخصية، سواء أكانوا صحفيين أو غير صحفيين، فالعالم ليس عالم أفراد بل عالم مجموعات يتحكم فيها أصحاب المصالح والمستبدون والطامحون، وتسير وراءهم الشعوب كالقطعان. هل يسأل أي ضابط أو عسكري في الجيش الأمريكي وجيوش الحلف الأطلسي نفسه: "ماذا يفعل في العراق أو في أفغانستان؟ وهل يحارب من أجل قضية عادلة كما يقال له؟". وهل سأل الضباط والجنود الفرنسيون أنفسهم طيلة قرن وربع من استعمار الجزائر وممارسة الظلم والقهر والتعذيب والقتل هذا السؤال؟ هل سأل الضابط أو الجندي الألماني نفسه وهو يقود اليهود إلى غرف التعذيب عن عدالة ما يفعله؟ وهل سأل الضابط والجندي الإسرائيلي نفسه هذا السؤال عند ارتكاب المذابح والمجازر في الضفة وغزة وجنوب لبنان؟

كثيرون لا يسألون أنفسهم هذا السؤال إلا عند الهزيمة. تحرك الرأي العام الفرنسي عند هزيمة الفرنسيين في "ديان بيان فو"، وتحرك أيضا عندما بدأت الثورة الجزائرية تحقق الانتصارات.

 لكن هذا لا ينطبق على العسكريين وحدهم ولا على أمريكا ودول أوربا فالقضية تشمل دول العالم كله. لم نر وزيرا أو سفيرا أو موظفا ساميا يعترض على قرارات بلاده الجائرة إلا إذا مسته شخصيا أو مست مصالحه. لذلك ترى معظم الدبلوماسيين في كل البلدان ممن هم في أعلى سلم الثقافة والوعي يؤيدون الاستعمار والديكتاتورية والاستبداد الحزبي والطائفي ويتبعون موقف حكوماتهم التي تطغى على قناعاتهم الشخصية. وليس غريبا إذا أن تؤيد سيمون الصهيونية وترى قضيتها عادلة وتتعامى عن النزعة الإرهابية فيها منذ نشوئها وقيام دولتها، في حين تعتبر المقاومين أصحاب الحق ممن اغتصبت أراضيهم وهجروا من ديارهم إرهابيين فاشيين.

أجابت هدى باقتضاب: "لا تعجبي فنظرتنا إلى العدالة والظلم تختلف. أنت أوربية، والأوربيون قرروا إنصاف اليهود بعد أن ظلموهم عدة قرون ختمت بما فعله هتلر بهم. لكنهم أرادوا إنصافهم بظلم شعب آخر بريء، وتشريده من دياره وذبح رجاله ونسائه وأطفاله".

لم يفسد هذا النقاش شهية الصحفيتين أو يقطع حبل الود بينهما، وتبدل الحديث فجأة لتسأل سيمون عن آخر المنشآت السياحية في الجزائر".

"القاضية والملياردير" – "الخيط السادس"

الأسئلة:

1- بماذا تختلف زيارة الصحفية الفرنسية للجزائر هذه المرة عن المرات السابقة؟

2- ما الذي يجمع بين الصحفيتين؟ وما الذي يفرق بينهما؟

3- لماذا انتقدت السيدة سيمون كتاب السيدة هدى عن الإرهاب؟ وما الفرق بين تبرير الأعمال الإرهابية وبين تفسيرها في رأي السيدة هدى؟ وهل توافقها في ذلك؟

4- لماذا انتقدت السيدة سيمون مقالات السيدة هدى عن القضية الفلسطينية؟

5- هل كان موقف سيمون من القضية الفلسطينية نابعا من قناعتها الشخصية؟ وضح إجابتك مستشهدا بما ورد في النص؟

6- اشرح عبارة: "قليلون في هذا العالم من تنبع مواقفهم من قناعاتهم الشخصية، فالعالم ليس عالم أفراد بل عالم مجموعات يتحكم فيها أصحاب المصالح والمستبدون والطامحون، وتسير وراءهم الشعوب كالقطعان.

7- بين رأيك في العبارة السابقة مؤيدا أو معارضا، واستشهد بأمثلة من الواقع لتدعم وجهة نظرك.

8- لماذا كانت نظرة هدى وسيمون إلى العدالة والظلم مختلفة؟

9- لماذا لم يفسد النقاش شهية الصحفيتين أو يقطع حبل الود بينهما في رأيك؟ وما الصفة الحميدة التي تجمع بينهما؟